صـــمت !!!!
نحن نتبادل الكلمات والحروف والعبارات كوسائل للتعبير عن المعاني وكأدوات لكشف كوامن النفوس..
ونتصور أن الحروف يمكن أن تقوم بذاتها كبدائل للمشاعر، ويمكن أن تدل علي بصدق علي ذواتنا ومكنوناتنا.
والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف
وتضلل ولا تدلل
وتشوه ولا توضح
وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد
يقول الحبيب لحبيبته :
- أحبك.
وهو يقصد بذلك التعبير عن حالة وجدانية خاصة جداً وذاتية وجديدة عليه، فلا يجد إلا كلمة هي صك مستهلك تهرأ من كثرة الاستعمال...
كلمة أصبحت ماركة مسجلة لأردأ أنواع البضائع....
كلمة حولتها الأغاني المبتذلة والهزليات المسرحية إلي بالوعة..
أو في أحسن الأحوال إلي منشفة لتجفيف ما ينضح من العرق في حالات فسيولوجية عديدة ومتناقضة.
ولكنه لا يجد غيرها.
فإذا حاول أن يستخرج من قاموس الحروف ومعجم العبارات كلمات أخري فإنه لا يجد إلا المجاز والاستعارة والبيان والبديع وضرب الأمثلة.
فيقول لحبيبته:
إنه يحبها كما تحب الوردة ندي الفجر
أو كما تحب صغار العصافير أعشاشها
وهو كلام فارغ آخر يترجم الحالة الخاصة الفريدة إلي سلسلة من البدائل المزورة
ويحول الشعور البكر إلي ثرثرة جوفاء لا تدل علي شئ
ولو أنه صمت لكان صمته أبلغ..
وللصمت المفعم بالشعور حكم أقوم من حكم الكلمات...
وله أشعاع وله قدرته الخاصة علي الفعل والتأثير...
والمحب الصامت يتطيع أن ينقل لغته وحبه إلي الآخر...
إذا كان علي نفس المستوي من رهافة الحس...
وإذا كان هو الأخر قادراً علي
السمع بلا أذن والكلام بلا نطق
والإنسان معجزة المخلوقات...
وهو ليس آلة كاتبة... ولا أسطوانات ناطقة
وهو أكثر من مجرد آليات جسدية...
هو عقل وروح ووجدان...
وذاته مستودع قوي وأسرار إلهية..
وهو يستطيع أن يتكلم بلا نطق
ويسمع بلا أذن
ويري بلا عيون
ونحن نري في الحلم بلا عيون
ونسمع بلا آذان
ونجري بالا سيقان
وقد رأي المبصرون بعيون الأعمى ما لم يروا بعيونهم
والحقائق العالية تقصر دون بلوغها الحروف والعيون والآذان
وإنما خلقت للتعبير عن أشتات العالم المادي وجزئياته، وهي مجرد ورموز ومصطلحات ونظائر لما نري حولنا من شجر وحصى ورمل وتلال ووديان وجبال.
أما عالمنا الداخلي.. وسماواتنا الداخلية... وسرائرنا العميقة.. فتقصر دونها الحروف ولا تصورها كلمات..
وكلما كان شعورنا حميماً، وكلما كان حبنا متغلغلا في شغاف القلب مالكاً ناصية السر، ساكنا لب الفؤاد عجز اللسان وتضعضعت الكلمات وتقطعت العبارات.
