كلما توقفت بالتأمل أمام بعض المشاهد, والأحداث المأساوية الساخنة التي تهز مشاعر المجتمع بين الحين والحين يزداد اعتقادي بصحة ما أؤمن به, وهو إن معرفة النفس هي المدخل الصحيح لتمكين الإنسان من إقامة سلامه الذاتي مع نفسه.. لأنه في غيبة من وجود سلام مع النفس يصبح المرء أسيرا لهواجس مقلقة حتي لو كان أغني الأغنياء, وأصح الأصحاء.
والحقيقة أن معرفة النفس هي التي تجنب المرء الوقوع في حالات مزاجية سوداء تعكس واقع انعدام الثقة في الحاضر, واليأس من المستقبل, واعتبار السلبية واللامبالاة هي طريق الهروب من المواجهة المستحيلة أمام هموم ومشاكل تتضخم بأكثر من حجمها!.
وإذا كانت ضغوط العصر وقوانينه القاسية ومتغيراته المتلاحقة لم ترحم أحدا من بعض مسببات التوتر والانفعال الذي يقود إلي التهور والتأثير سلبيا علي سلام النفس.. إلا أن الحياة علمتنا بدروس عديدة أن من يملكون زادا إيمانيا وروحيا كافيا قد أثبتوا ـ علي أرض الواقع ـ أنهم قادرون علي طرد القلق والتوتر وعدم الاستسلام لأعراض الاكتئاب واليأس والإحباط, وبالتالي تجنب الاندفاع إلي ارتكاب الجرائم, والخطايا المحرمة!.
أريد أن أقول بوضوح أنه بالإيمان والعقيدة, وتوافر الزاد الروحي يكتسب المرء قوة مضافة تساعده علي استجماع قواه الذهنية والنفسية والبدنية التي تمكنه من درء مثل هذه الأخطار الداهمة إما بالتكيف مع الواقع دون تنازل أو بالانسحاب الآمن المنظم دون خسائر!.
والحقيقة أن معظم الدراسات الاجتماعية والنفسية الحديثة تقول بأن ضغوط الحياة يمكن أن تؤدي لنشوء مشكلات اقتصادية ونفسية لأن كل إنسان لديه حدود معينة لطاقته ولقدرته علي الاحتمال, ولكن المسلحين بزاد معرفة النفس والمحصنين بقوة العقيدة والإيمان بقضاء الله وقدره هم الذين يحولون هذه الضغوط في اتجاه معاكس لتصبح قوة إيجابية تزيد من قدرتهم علي تحدي الأزمات وتضاعف من مشاعر الإحساس بالثقة في الغد!.
ومعني ذلك أن الإنسان هو طبيب نفسه بشرط أن يحسن معرفة نفسه وأن يتحرك بثبات نحو إقامة سلام داخلي مع النفس قبل أن يبحث عن سلام مع الآخرين أو سلام مع ضغوط الحياة وتحدياتها!.
والذي قاله سقراط قبل عشرات القرون من الزمان مازال هو الأصح والأصلح لتوفير القدرة الذاتية للمرء علي حل مشاكله دون أذي لنفسه أو للآخرين لأن سقراط عندما أطلق مقولته الشهيرة اعرف نفسك كان يستشعر عن حق أن الإنسان هو طبيب نفسه, وأنه لكي ينعم بأكبر قدر من السعادة عليه أن يفتش داخل نفسه قبل أن يستجدي دعما من غيره, لأنه إذا فتش في نفسه عرف جوانب القوة والضعف بصدق, واستطاع أن يكيف حياته علي ميزان دقيق من الأمانة والصدق مع النفس!.
ومن ثم ليس غريبا أن يكون أكثر الناس توازنا نفسيا واجتماعيا هم الذين لديهم القدرة علي الانفتاح علي الآخرين بمرونة, ووعي ويضعون دائما في اعتبارهم حقوق ومشاعر وطموحات الآخرين بنفس درجة وعيهم بحقوقهم, وعدم تفريطهم في آمالهم وطموحاتهم المشروعة
مـرسي عطـا الـلـه
جريدة الأهرام
29 أغسطس 2008