ونحن نقول له : سؤالك فاسد .. ولا مطبولا حاجة فأنت تسلّم بأن الله خالق ثم تقول مَن خلقه ؟! فتجعل منه خالقاً ومخلوقاًفي نفس الجملة وهذا تناقض..
والوجه الآخر لفساد السؤال أنك تتصور خضوع الخالقلقوانين مخلوقاته .. فالسببية قانوننا نحن أبناء الزمان والمكان.
والله الذيخلق الزمان والمكان هو بالضرورة فوق الزمان والمكان ولا يصح لنا أن نتصوره مقيداًبالزمان والمكان .. ولا بقوانين الزمان والمكان.
والله هو الذي خلق قانونالسببية .. فلا يجوز أن نتصوره خاضعاً لقانون السببية الذي خلقه.
وأنت بهذهالسفسطة أشبه بالعرائس التي تتحرك بزمبلك .. وتتصور أن الإنسان الذي صنعها لا بد هوالآخر يتحرك بزمبلك .. فإذا قلنا لها بل هو يتحرك من تلقاء نفسه .. قالت : مستحيلأن يتحرك شيء من تلقاء نفسه .. إني أرى في عالمي كل شيء يتحرك بزمبلك.
وأنتبالمثل لا تتصور أن الله موجود بذاته بدون موجد .. لمجرد أنك ترى كل شيء حولك فيحاجة إلى موجد.
وأنت كمن يظن أن الله محتاج إلى براشوت لينزل على البشر ومحتاجإلى أتوبيس سريع ليصل إلى أنبيائه.. سبحانه وتعالى عن هذه الأوصاف علوّاً كبيراً..
"وعمانويل كانت" الفيلسوف الألماني في كتابه "نقد العقل الخالص" أدرك أنالعقل لا يستطيع أن يحيط بكنه الأشياء وأنه مُهيّأ بطبيعته لإدراك الجزئياتوالظواهر فقط .. في حين أنه عاجز عن إدراك الماهيات المجردة مثل الوجود الإلهي.. وإنما عرفنا الله بالضمير وليس بالعقل .. شوقنا إلى العدل كان دليلنا على وجودالعادل .. كما أن ظمأنا إلى الماء هو دليلنا على وجود الماء..
أما أرسطوفقد استطرد في تسلسل الأسباب قائلاً : إن الكرسي من الخشب والخشب من الشجرة.. والشجرة من البذرة .. والبذرة من الزارع .. واضطر إلى القول بأن هذا الاستطرادالمتسلسل في الزمن اللانهائي لابد أن ينتهي بنا في البدء الأول إلى سبب في غير حاجةإلى سبب .. سبب أول أو محرك أول في غير حاجة إلى من يحركه .. خالق في غير حاجة إلىخالق .. وهو نفس ما نقوله عن الله..
أما ابن عربي فكان رده على هذا السؤال"سؤال مَنْ خلق الخالق".. بأنه سؤال لا يرد إلا على عقل فاسد.. فالله هو الذي يبرهنعلى الوجود ولا يصح أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله.. تماماً كما نقول إن النوريبرهن على النهار .. ونعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور..
يقولالله في حديث قدسي :
(أنا يُستدل بي .. أنا لا يُستدل عليّ)..
فالله هوالدليل الذي لا يحتاج إلى دليل .. لأنه الله الحق الواضح بذاته .. وهو الحجة على كلشيء .. الله ظاهر في النظام والدقة والجمال والإحكام .. في ورقة الشجر .. في ريشةالطاووس .. في جناح الفراش .. في عطر الورد .. في صدح البلبل .. في ترابط النجوموالكواكب.. في هذا القصيد السيمفوني الذي اسمه الكون..
لو قلنا إن كل هذا جاءمصادفة .. لكنا كمن يتصور أن إلقاء حروف مطبعة في الهواء يمكن أن يؤدي إلى تجمعهاتلقائياً على شكل قصيدة شعر لشكسبير بدون شاعر وبدون مؤلف.
والقرآن يغنيناعن هذه المجادلات بكلمات قليلة وبليغة فيقول بوضوح قاطع ودون تفلسف:
{قُلْ هُوَاللَّهُ أَحَدٌ . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد} سورةالإخلاص:1
ويسألنا صاحبنا ساخراً : ولماذا تقولون إن الله واحد ..؟ لماذا لايكون الآلهة متعددين ..؟ يتوزعون بينهم الاختصاصات ؟
وسوف نرد عليه بالمنطقالذي يعترف به .. بالعلم وليس بالقرآن..
سوف نقول له إن الخالق واحد ، لأنالكون كله مبني من خامة واحدة وبخطة واحدة .. فمن الأيدروجين تألفت العناصر الاثنانوالتسعون التي في جدول "مندليف" بنفس الطريقة .. "بالادماج" وإطلاق الطاقة الذريةالتي تتأجج بها النجوم وتشتعل الشموس في فضاء الكون.
كما أن الحياة كلها بنيتمن مركبات الكربون "جميع صنوف الحياة تتفحم بالاحتراق" وعلى مقتضى خطة تشريحيةواحدة .. تشريح الضفدعة ، والأرنب ، والحمامة ، والتمساح ، والزرافة ، والحوت ،يكشف عن خطة تشريحية واحدة ، نفس الشرايين والأوردة وغرفات القلب ، ونفس العظام ،كل عظمة لها نظيرتها .. الجناح في الحمامة هو الذراع في الضفدعة .. نفس العظام معتحور طفيف ..والعنق في الزرافة على طوله نجد فيه نفس الفقرات السبع التي تجدها فيعنق القنفذ .. والجهاز العصبي هو هو في الجميع ، يتألف من مخ وحبل شوكي وأعصاب حسوأعصاب حركة .. والجهاز الهضمي من معدة واثني عشر ، وأمعاء دقيقة وأمعاء غليظةوالجهاز التناسلي نفس المبيض والرحم والخصية وقنواتها .. والجهاز البولي الكليةوالحالب ، وحويصلة البول .. ثم الوحدة التشريحية في الجميع هي الخلية .. وهي فيالنبات كما في الحيوان كما في الإنسان، بنفس المواصفات، تتنفس وتتكاثر وتموت وتولدبنفس الطريقة..
فأية غرابة بعد هذا أن نقول إن الخالق واحد ؟ .. ألا تدل علىذلك وحدة الأساليب.
ولماذا يتعدد الكامل ..؟ وهل به نقص ليحتاج إلى من يكمله ؟.. إنما يتعدد الناقصون.
ولو تعدد الآلهة لاختلفوا ، ولذهب كل إله بما خلق ،ولفسدت السماوات والأرض , والله له الكبرياء والجبروت وهذه صفات لا تحتمل الشركة..
ويسخر صاحبنا من معنى الربوبية كما نفهمه .. ويقول أليس عجيباً ذلك الربالذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ، فيأخذ بناصية الدابة ، ويوحي إلى النحل أن تتخذ منالجبال بيوتاً ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، وما تخرج من ثمرات من أكمامها إلاّأحصاها عدداً ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .. وإذا عثرت قدم في حفرة فهوالذي أعثرها.. وإذا سقطت ذبابة في طعام فهو الذي أسقطها .. وإذا تعطلت الحرارة فيتليفون فهو الذي عطلها .. وإذا امتنع المطر فهو الذي منعه ، وإذا هطل فهو الذيأهطله .. ألا تشغلون إلهكم بالكثير التافه من الأمور بهذا الفهم..
ولا أفهمأيكون الرب في نظر السائل أجدر بالربوبية لو أنه أعفى نفسه من هذه المسئوليات وأخذإجازة وأدار ظهره للكون الذي خلقه وتركه يأكل بعضه بعضاً!
هل الرب الجدير فينظره هو رب عاطل مغمى عليه لا يسمع ولا يرى ولا يستجيب ولا يعتني بمخلوقاته ؟ .. ثممن أين للسائل بالعلم بأن موضوعاً ما تافه لا يستحق تدخل الإله، وموضوعاً آخر مهماًوخطير الشأن ؟
إن الذبابة التي تبدو تافهة في نظر السائل لا يهم في نظره أن تسقطفي الطعام أو لا تسقط، هذه الذبابة يمكن أن تغيّر التاريخ بسقوطها التافه ذلك.. فإنها يمكن أن تنقل الكوليرا إلى جيش وتكسب معركة لطرف آخر، تتغير بعدها موازينالتاريخ كله.
ألم تقتل الإسكندر الأكبر بعوضة ؟
إن أتفه المقدمات ممكن أنتؤدي إلى أخطر النتائج .. وأخطر المقدمات ممكن أن تنتهي إلى لا شيء .. وعالم الغيبوحده هو الذي يعلم قيمة كل شيء.
وهل تصور السائل نفسه وصيّاً على الله يحدد لهاختصاصاته .. تقدّس وتنزّه ربنا عن هذا التصور الساذج.
إنما الإله الجديربالألوهية هنا هو الإله الذي أحاط بكل شيء علماً .. لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرضولا في السماء.
الإله السميع المجيب ، المعتني بمخلوقاته.